التفاصيل

قرار البنك المركزي العراقي: خطوة نحو الشفافية أم مدخل للفوضى في السوق العقاري؟

قرار البنك المركزي العراقي: خطوة نحو الشفافية أم مدخل للفوضى في السوق العقاري؟ د. ماجد الربيعي المدير المفوض أصدر البنك المركزي العراقي قراراً جديداً يلزم جميع المعاملات العقارية التي تتجاوز قيمتها 100 مليون دينار بالمرور عبر المصارف المجازة، في خطوة تهدف إلى مكافحة غسيل الأموال وتعزيز الشفافية في السوق العقاري. ورغم أن الهدف المعلن يبدو ضرورياً ومشروعاً، إلا أن تطبيق هذا القرار في ظل الظروف الحالية يثير تساؤلات واسعة حول تأثيره على السوق العقاري والمواطنين على حد سواء، خصوصاً في ظل مشكلات النظام المصرفي العراقي وضعف ثقة الجمهور به. النظام المصرفي في العراق يواجه تحديات كبيرة تؤثر بشكل مباشر على قدرة المواطنين على التعامل معه. يعاني المواطن العراقي من صعوبات كبيرة عند التعامل مع المصارف، إذ أن استرداد الأموال المودعة غالباً ما يكون معقداً وغير سلس، حيث تُعاد المبالغ على شكل دفعات، وفي بعض الحالات يتطلب الأمر شهوراً لاستعادتها. هذا الواقع يُضعف من ثقة الجمهور بالمصارف ويجعلها تبدو وكأنها عبء إضافي بدلاً من كونها وسيلة لتسهيل المعاملات المالية. تُعد مشكلة الفساد داخل المؤسسات المصرفية من أبرز العقبات التي قد تحول هذا القرار إلى عبء إضافي على المواطنين. ففي العديد من الحالات، يضطر الأفراد إلى دفع مبالغ غير قانونية أو تقديم رشاوي لتسريع إجراءات المعاملات العقارية. ومع تطبيق القرار الجديد، تبرز مخاوف مشروعة من أن يصبح التعامل المصرفي إلزامياً دون توفير آليات حماية فعالة تضمن عدم استغلال المواطنين. إن فرض عمولات ورسوم إضافية مبالغ فيها على المعاملات العقارية قد يثقل كاهل المواطن بتكاليف غير مبررة، مما يزيد من الأعباء المالية ويؤثر سلبًا على حركة السوق العقاري. من أبرز المخاطر التي قد تترتب على تطبيق هذا القرار هو أنه قد يدفع العديد من الأطراف إلى اللجوء إلى المعاملات غير الرسمية وتجنب القنوات الرسمية المعتمدة بشكل كامل. فعندما يفقد المواطن الثقة في المصارف أو يعتقد أن الإجراءات المصرفية الرسمية تساهم في تعقيد الأمور وزيادة التكاليف، فإنه سيجد نفسه مضطراً للجوء إلى إبرام عقود بيع خارجية بعيداً عن نظام التسجيل العقاري الرسمي. وعلى الرغم من أن هذا قد يُعتبر خياراً بديلاً للبعض، إلا أن هذه الخطوة تفتح المجال لظهور فوضى قانونية واسعة. ففي حال تم إبرام عقود البيع خارج دوائر التسجيل العقاري الرسمية، فإن ذلك يعرض الأطراف المتعاقدة لمخاطر كبيرة، حيث تصبح ملكية العقار غير موثقة قانوناً، مما يعرض المشترين لخطر عدم القدرة على إثبات ملكيتهم. وهذا يفتح الباب أمام إمكانية الطعن في العقود أو المطالبة بإلغائها، خاصة في حال حدوث مبيعات متعددة على نفس العقار أو وجود نزاعات حول الملكية. وبذلك، فإن غياب التسجيل الرسمي لا يؤدي فقط إلى إضعاف النظام العقاري الرسمي، بل يعزز أيضاً من ثقافة عدم الالتزام بالقوانين، مما يفاقم الفوضى القانونية ويزيد من صعوبة تنظيم السوق العقاري. وبالإضافة إلى ذلك، فإن إبرام العقود خارج النظام الرسمي يرفع بشكل ملحوظ من احتمالية حدوث النزاعات القضائية. فغياب التوثيق الرسمي للمعاملات يجعل من السهل للأطراف المتعاقدة التنازع حول شروط العقد أو حول ملكية العقار. ونتيجة لذلك، تتراكم القضايا في المحاكم، مما يؤدي إلى زيادة الضغط على النظام القضائي وإطالة الوقت اللازم للفصل في هذه القضايا. هذا الأمر يؤثر سلباً على فعالية النظام القضائي ويعطل الحلول السريعة للنزاعات، مما يزيد من تدهور العلاقة بين الأطراف ويعطل حركة السوق العقاري بشكل عام، وبالتالي يقلل من مرونة الاقتصاد ككل. علاوة على ذلك، فإن عدم التوثيق الرسمي للعقود العقارية يسهم بشكل كبير في تعزيز التهرب الضريبي. فبغياب التسجيل العقاري، يصبح من الصعب تتبع المعاملات بدقة، مما يسهل على الأفراد التهرب من دفع الضرائب المفروضة على مبيعات العقارات. عدم تسجيل هذه المعاملات في السجلات الرسمية يحرم الدولة من إيرادات ضريبية كان من الممكن استخدامها في تمويل مشاريع البنية التحتية والخدمات العامة. وهذا يعزز من نشاط الاقتصاد غير الرسمي ويزيد من تعقيد جهود الدولة في جمع الضرائب وتوجيهها نحو المشاريع التنموية، مما يزيد من فجوة الامتثال الضريبي ويزيد من صعوبة مراقبة النشاط الاقتصادي. في سياق القرار المتعلق بتنظيم بيع العقارات من خلال المصارف، من الأهمية بمكان التأكيد على أن مثل هذه القضايا التنظيمية كان من المفترض أن تصدر من مجلس الوزراء وليس من البنك المركزي، حيث إن اختصاصات البنك المركزي محدودة ولا تشمل تنظيم أو تعديل الإجراءات المتعلقة ببيع العقارات. وفقاً لنصوص قانونية واضحة، يعتبر البنك المركزي المسؤول عن تنظيم السياسة النقدية والائتمان في العراق، وهو ليس الجهة المختصة بالتعامل مع المعاملات العقارية أو فرض قواعد تنظيمية تتعلق بها. وفي هذا السياق، يُفترض أن مثل هذه القرارات التي تؤثر بشكل مباشر على قطاع العقارات يجب أن تكون ضمن إطار السياسة العامة للدولة التي ينظمها مجلس الوزراء. وهذا يقتضي التنسيق بين مختلف الوزارات والهيئات الحكومية المعنية، مثل وزارة الإسكان والتخطيط العمراني، والهيئات الحكومية التي تشرف على التسجيل العقاري وتنظيم سوق العقارات في العراق. فوفقاً للقانون العراقي، لا يملك البنك المركزي أي صلاحية لتحديد كيفية إجراء معاملات بيع العقارات أو فرض القيود المتعلقة بها، كما أن القوانين المعمول بها في العراق تعطي هذه الصلاحيات للمؤسسات المعنية بالقطاع العقاري، وخاصة من خلال التشريعات التي تنظم التوثيق العقاري وحقوق الملكية. وعليه، فإن إصدار قرارات من البنك المركزي بشأن بيع العقارات دون التنسيق مع الجهات المختصة يُعد خرقاً للاختصاصات ويُحتمل أن يؤدي إلى تعقيد الإجراءات القانونية وخلق تضارب في القوانين التي تنظم المعاملات العقارية. كان من الأجدر أن يتم التشاور بين الجهات ذات العلاقة، خصوصاً أن قرارات مثل هذه تؤثر بشكل كبير على الاقتصاد الوطني وعلى حركة السوق العقاري، الأمر الذي يتطلب تعاوناً منسقاً بين مختلف المؤسسات الحكومية لضمان تحقيق الاستقرار والشفافية في السوق العقاري. بدلاً من الاعتماد على قرارات قد تُحدث آثاراً عكسية، تحتاج الدولة إلى تبني إجراءات أكثر شمولية وإصلاحاً جذرياً للنظام المصرفي. يجب تحسين الخدمات المصرفية وضمان كفاءتها لتلبية احتياجات المواطنين، مع تعزيز الشفافية ومكافحة الفساد داخل المؤسسات المالية. تطوير أنظمة إلكترونية متقدمة تتبع جميع المعاملات العقارية وتربط بين المصارف ودوائر التسجيل العقاري يمكن أن يكون خطوة حقيقية نحو تعزيز الشفافية ومكافحة غسيل الأموال دون فرض أعباء إضافية على السوق. إضافة إلى ذلك، ينبغي على الدولة وضع سياسات عادلة فيما يتعلق بالرسوم والعمولات المصرفية. المواطن بحاجة إلى ضمانات واضحة بعدم فرض رسوم أو فوائد غير مبررة على معاملاته العقارية. وفي الوقت نفسه، يجب تبسيط إجراءات التسجيل العقاري لتقليل الزمن والتكاليف، مما يجعل الالتزام بالنظام الرسمي أكثر جاذبية. إن قرار البنك المركزي العراقي، رغم أهدافه النبيلة، يحتاج إلى إعادة تقييم تأخذ بعين الاعتبار الظروف المصرفية الحالية والتحديات التي يواجهها المواطنون. تحقيق الشفافية ومكافحة غسيل الأموال يجب أن يتم عبر سياسات متوازنة تُصلح النظام المصرفي وتُعيد ثقة المواطن به، بدلًا من فرض قيود قد تؤدي إلى نتائج عكسية. سوق عقاري مستقر وشفاف لن يتحقق إلا بوجود نظام مالي قوي وعادل يضمن حقوق الجميع دون استثناء.