التفاصيل

أثر العفو العام على تعزيز العدالة والمصالحة المجتمعية في القانون العراقي
د.ماجد الربيعي العفو العام هو إحدى الوسائل القانونية التي تُقرها الدول لمعالجة آثار النزاعات أو الأخطاء القانونية المرتكبة في مراحل زمنية معينة. في العراق، يُعد العفو العام أداة حساسة وشائكة، حيث تتداخل فيها الأبعاد القانونية والسياسية والاجتماعية. وهو إجراء تتخذه الدولة عبر السلطة التشريعية، بموجب قانون يُقر من البرلمان، أو عبر قرارات استثنائية يصدرها رئيس الدولة، بهدف إسقاط العقوبات عن جرائم محددة أو عن فئات معينة من الأشخاص. وعلى الرغم من الجدل الذي يحيط بهذا الإجراء، إلا أنه يُستخدم في بعض الحالات كوسيلة لتحقيق المصالحة المجتمعية وتعزيز الاستقرار الوطني. يُحدد القانون العراقي طبيعة العفو العام، حيث تنص المادة (73/أولاً) من الدستور العراقي على أن رئيس الجمهورية يمتلك صلاحية إصدار العفو الخاص بناءً على توصية من رئيس الوزراء، بينما يُترك إصدار العفو العام للسلطة التشريعية. وقد شهد العراق خلال العقود الأخيرة عدة قوانين للعفو العام، جاءت في سياقات مختلفة نتيجة الحروب، الأزمات السياسية، والصراعات الطائفية. ومن أبرز هذه القوانين قانون العفو العام لعام 2016، الذي صدر في سياق معالجة تداعيات الحرب على الإرهاب والانقسامات الطائفية. يتجلى دور العفو العام في تعزيز العدالة والمصالحة المجتمعية من خلال عدة أبعاد. أولاً، يُسهم العفو العام في معالجة التوترات التي تنشأ عن صراعات طويلة الأمد، خاصة في المجتمعات التي تعاني من انقسامات حادة كما هو الحال في العراق. فبعد الحروب والنزاعات الطائفية، يكون الهدف الأساسي للدولة هو إعادة بناء اللحمة الاجتماعية وتعزيز الثقة بين مكونات المجتمع. العفو العام يمنح الأفراد الذين ارتكبوا مخالفات أو جرائم فرصة للاندماج مجددًا في المجتمع، وهو ما يُعد خطوة نحو تجاوز الماضي والانطلاق نحو مستقبل أكثر استقرارًا. من الناحية القانونية، يُعتبر العفو العام جزءاً من العدالة الانتقالية التي تهدف إلى معالجة الماضي بما يحقق الإنصاف دون المساس باستقرار الدولة. في العراق، تُعد العدالة الانتقالية ضرورة قصوى في ظل التركة الثقيلة من الجرائم والانتهاكات التي شهدتها البلاد. العفو العام، عندما يُطبق بشكل عادل، يمكن أن يكون أداة فعّالة لتخفيف الضغط عن النظام القضائي المزدحم بالقضايا، خاصة تلك المتعلقة بجرائم الإرهاب أو الجرائم السياسية. لكنه في الوقت نفسه يثير تساؤلات حول حقوق الضحايا وإمكانية تحقيق العدالة لهم. لذلك، لا بد أن يكون العفو العام مصحوبًا بآليات تعويض الضحايا وضمان عدم إفلات الجناة من المساءلة في الجرائم الكبرى مثل الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب. أحد أبرز التحديات التي تواجه تطبيق العفو العام في العراق هو غياب التوازن بين المصالحة ومبدأ المساءلة. فالقوانين العراقية المتعلقة بالعفو غالبًا ما تتعرض للانتقاد بسبب الغموض في تحديد الجرائم المشمولة بالعفو، الأمر الذي يؤدي إلى تفسيرات متباينة وتطبيقات غير متساوية. فعلى سبيل المثال، قانون العفو لعام 2016 استثنى جرائم الإرهاب والفساد المالي والإداري، لكنه فتح المجال لإعادة محاكمة المتهمين بهذه الجرائم في حال توفرت أدلة جديدة. هذا النص أثار جدلاً واسعًا، حيث اعتبره البعض مدخلاً للإفلات من العقاب تحت غطاء العفو. من جهة أخرى، يمكن أن يؤدي العفو العام إلى تعميق الانقسامات إذا لم يُصمم بشكل يُرضي جميع الأطراف. فالمجتمع العراقي متعدد الأعراق والطوائف، وكل طرف لديه رؤيته الخاصة حول ما يعتبر عدلاً. إذا شُعر أن العفو يستهدف فئة معينة على حساب فئة أخرى، فقد يؤدي ذلك إلى زيادة التوترات بدلًا من حلها. لذا، يجب أن يكون العفو العام جزءاً من استراتيجية شاملة تشمل إصلاح النظام القضائي، تعزيز سيادة القانون، وضمان تعويض الضحايا وإعادة دمج المحكومين بشكل يخدم مصلحة المجتمع ككل. العفو العام يمكن أن يكون وسيلة لتعزيز المصالحة المجتمعية إذا تم استخدامه بحذر وضمن إطار قانوني صارم. في العراق، حيث يُعد الانقسام الاجتماعي والسياسي أحد أكبر التحديات، يجب أن يُوظف العفو العام لتعزيز الوحدة الوطنية وتخفيف الأعباء عن القضاء، ولكن دون المساس بحقوق الضحايا أو تقويض مبدأ سيادة القانون. لضمان نجاح العفو العام في تحقيق أهدافه، ينبغي على السلطات العراقية مراعاة النقاط التالية: أن يكون العفو شاملاً لكنه غير مطلق، أي يشمل الجرائم ذات الطابع السياسي أو المرتبطة بظروف استثنائية دون أن يُفلت مرتكبو الجرائم الكبرى من العقاب. كذلك، يجب أن يُرافق العفو برامج إصلاحية تهدف إلى إعادة تأهيل المستفيدين منه ودمجهم في المجتمع بشكل إيجابي. ختامًا، العفو العام في العراق ليس مجرد إجراء قانوني، بل هو أداة سياسية واجتماعية تُظهر مدى قدرة الدولة على تحقيق التوازن بين العدالة والتسامح. إذا استُخدم بشكل مدروس، فإنه يمكن أن يُسهم في طي صفحة الماضي وفتح أبواب المستقبل. ولكن لتحقيق ذلك، لا بد من الالتزام بالشفافية، ضمان حقوق الضحايا، والعمل على تعزيز الثقة في مؤسسات الدولة، بما يُفضي إلى بناء مجتمع عادل ومستقر.
